البحرين اليوم – (خاص)
أثار اتّهام الحكومة الخليفيّة لدولة قطر بأنّها تُهدِّد أمنها القومي بسبب “إغوائها” بحرينيين بالجنسيّة القطريّة، (أثار) العديد من التّساؤلات وعلامات التّعجب في الدّاخل والخارج.
محلّيّاً، جاء هذا الاتهام (على لسان وكيل وزارة الدّاخليّة الخليفيّة لشؤون الجنسيّة) استكمالاً لكلامٍ سابق أعلنه وزير الخارجيّة الخليفيّ في الشّهر الماضي خلال حوارٍ مع روتانا خليجيّة، واستنكر فيه الوزير إقدام قطر على تجنيس “فئة” من البحرانيين (في إشارة إلى مواطنين سنّة).
المجرم الوقِح
في السّياق الدّاخليّ، أقدم الخليفيّون على إسقاط الجنسيّة قبل يومين عن ٩ ناشطين محكومين بأحكام انتقاميّة، وقبلها بأيّام هدّدت أجهزة النّظام بترحيل عدد من المواطنين الذين سلبت جنسيّاتهم قبل عامين، واستدعتهم لتعديل وضعهم القانوني في البلاد. ويتصل كلّ ذلك بالمشروع “التدميري” الذي كُشِف عنه قبل سنوات من خلال تقرير “البندر” الشّهير، والذي يضعُ مخطّطاً لاستهداف الوجود الأصلي للمواطنين، عبر التّلاعب بالتركيبة السّكانيّة، باستخدام التجنيس، وتطويق المواطنين الأصليين بالقتل الممنهج، والترويع النّاعم، والتهجير القسري.
ندوة التّجنيس: إهمال الجريمة
في ظلّ هذه “الجريمة” الواسعة للنّظام الخليفي تأتي التصريحات الأخيرة، لتؤكّد أنّ الإجرام الذي يُمارسه النّظام منسوجٌ بقدر واسع من “الوقاحة” والاستخفاف بالمواطنين، وهو ما يجعل معارضين يُحذّرون من عدم التّعاطي الجدّي (من جديد) مع هذه الجريمة، خشية أن تتحوّل إلى فعل “مُعتاد” و”يومي” و”أمر واقع”، تماماً كما تمّ “التّساهل” في محطّات تاريخيّة سابقة مع قضايا وموضوعات، سرعان ما استحالت إلى “وقائع صُلبة” غير مُتاح مناهضتها بسهولة، إمّا لفقدان الوعي بها، أو لعدم توافر الإجماع الوطني عليها.
يُشار في هذا الجانب إلى قضيّة “الدستور” و”الميثاق”، و”القوانين المجحفة”، و”اعتقال العلماء وتعذيبهم”، وانتهاك حرمة “المواكب والمساجد والنساء” بالضرب والهدم والاعتداء. كان التّعاطي الفاتر و”الحزبي”، والتردّد في إعلان المواقف الحاسمة في لحظتها؛ سبباً في توسّع كلّ الانتهاكات وتوسّعها في المحتوى والعدد.
يقول أحد النّاشطين بأنّ “ملف التّجنيس” ذاته كان أحد الملفّات التي لم تنل المعالجة الإستراتيجيّة والجادة في حينه. يشير المصدر إلى أنّ هذا الملف تكوّن لدى مجموعة من الشّخصيّات، كان على رأسها الأستاذ حسن مشيمع والدكتور عبدالجليل السنكيس، وناشطين آخرين منهم عباس العمران، حيث تم تشكيل لجنة التّجنيس في جمعيّة “الوفاق” في أوائل العام ٢٠٠٣م، وإعداد خريطة عمل تشمل وثائق فلميّة وبحثيّة في هذا الموضوع، إضافة إلى رؤية “اصطلاحيّة” تتعاطى مع عمليّة التّجنيس بوصفها “هولوكست” حقيقياً، وكان يُفترض العمل على توسيع حركة الاحتجاج الشّعبي لهذا الملفّ لتأخذ مدى أوسع من “ندوة التّجنيس” الشّهيرة (١٦ يوليو ٢٠٠٣).
لأسباب لها علاقة بعدم استيعاب خطورة “المشروع التّخريبي”، كما وصفه سعيد الشّهابي مبكِّراً، إضافة إلى الانكباب على موضوعات أخرى، والرّغبة في تحاشي “الإزعاج المُوسَّع” للنّظام؛ فقدَ ملفّ التّجنيس حضوره المركزي، رغم أنّه كان من الممكن أن يُمثّل – ولا يزال – رأس الحربة في مقاومة كلّ المشروع الخليفي، كما أنّ تأسيس معارضةٍ داخليّة على قاعدة هذا الملف؛ كفيلٌ باختصار الطّريق، وتوحيد بقية الملفّات التي كان يُفترض أن تكون فروعاً منه، وليس العكس.
لا يتردّد أحد العاملين في هذا الملفّ في القوْل بأنّ كلّ التّمادي الذي اقترفه النّظام على صعيد محاربة الوجود الأصليّ للمواطنين، هو ناتجٌ عن التلكؤ والتّساهل والتردّد و”التخوّف” من مواصلة النّضال في ملفّ التّجنيس، فضلاً عن الإنكفاء عن توسيع مداه، لاسيما بعد الضّغوط والتّهديدات التي أطلقها النّظام في هذا الشأن، وباستخدام آليّة القمع “بالقانون”، كما حصلَ مثلاً مع حظر تداول “تقرير البندر” من خلال قرار صادر عن “النيابة العامة”، وهو الإجراء الذي تسالمت عليه المعارضة وقتها بناءاً على الإستراتيجيّة المعمول بها تحت “احترام القانون” والالتزام به، ولو كان ظالماً وغير نزيه.
في النّتيجة، فإنّ النّظام انتقل من مرحلة التّجنيس العددي (حتّى نهاية ٢٠١٠م)، إلى مرحلة أكثر خطورة، وهي مرحلة التّجنيس “النّوعي”، وهي المرحلة التي تزامنت مع مرحلة البدء في “اقتلاع” المواطنين، وبوسائل تُشبه تلك التي استخدمتها القبيلة الخليفيّة وبقية القبائل الغازية حينما اعتمدت إستراتيجيّة “القتل والمجازر” في ترويع المواطنين ودفعهم للهروب خارج البلاد في غابر التّاريخ. وهنا يُسارِع مطّلعون إلى تقديم نصيحتهم بعدم أخذ مثل هذا “الكلام” على سبيل التوهّمات أو التّكهنات، أو بوصفه محض تحليلاتٍ منزوعة من الواقع.
التجنيس القطري: لعبة الخلاف الخليجي
على المستوى الخارجي، فإنّ التّصريخ الخليفيّ ضدّ قطر هو “عمليّة وظيفيّة” لها أكثر من غاية ورسالة، وغير مستبعَد أن يكون السّعوديّون وراءها.
بحسب الصّحافي عبد الباري عطوان، فإنّ الأزمة الخليجيّة مع قطر – وخلافاً لكلّ محاولات التهدئة وزيارات الاحتواء – هي في وضْعيّة التّصعيد، ويُرجّح عطوان أنّ قرار التّصعيد هو صناعة سعوديّة بامتياز، تأسيساً وتأزيمياً، وإنما من خلال استخدامات إماراتيّة وخليفيّة على وجه خاص.
السّعوديّة تحملُ ثأراً غير محدود ضدّ قطر، يتّصل الأمر بما يُقال عن التآمر القطري القديم ضدّ آل سعود (بحسب التّسريبات الصّوتيّة التي جمعت وزير خارجيّة قطر السّابق مع معمّر القذافي) وملفّات الانقلاب، والحدود، ومزاحمة مشروع الهيمنة السّعودي، والاشتباك على مناطق النّفوذ الخارجيّة، وغير ذلك. إلا أنّ حكّام آل سعود – وعلى غير عادتهم – فضّلوا استخدام آل نهيان وآل خليفة في التّصعيد ضدّ آل ثاني، رعايةً للسّيّد الأمريكي الذي لجأ علنيّاً حتّى الآن إلى عدم التّدخّل في تفاصيل الخلاف الخليجي، ولأسباب لها علاقة بطريقة الأمريكيين الجديدة في إدارة “خلافات العبيد الأشقياء”.
من خلال الإمارات، فُتحت أكثر من جبهة دعائيّة ضد قطر، وتمّ الاستفادة من كلّ أخطاء الدّوحة لتوسيع هذه الدّعاية، أو اختراع أخطاء معيّنة وتضخيمها (من قبيل، الإعلان عن اكتشاف خليّة تجسّس قطريّة في الإمارات، كما أعلنت الأخيرة الشّهر الماضي، والذي نفته قطر). أ
مّا البحرين، فإنها تبدو من وجهة النّظر السّعوديّة أكثر أفضليّة لتضمين التّصعيد ضدّ قطر المحتويات الأسرع تفجّراً، وبما يفتح الباب واسعاً لاختلاق الذّريعة الأنسب للانتقال إلى مرحلة “القرار” في معالجة الخلاف مع الدّوحة.
لم يكن صدفةً أن يكون موضوع “التّجنيس” هو مفتاح التفجير الخليفي/السّعودي ضدّ قطر. الموضوع يتّصل بأزمة فاحشة في دول الخليج، والتي تتشابك بتعقيدات التوازُع القبائلي، وأزمات الانتماء الوطني في هذه المنطقة الرّخوة من حيث التأسيس المديني وفقدان العقد الاجتماعيّ الضّامن لحقّ المواطنة. هذه الهشاشة المركّبة هي أرضيّة قابلة لأنْ تُشْعِل أيّ نار موقدة، وإحراق الجميع بها. وفي ظل اكتظاظ الاختناق الذي يُحيط الخليفيّين بفعل استمرار الثّورة، فإنّهم لا يجدون غضاضة في تحوّلهم إلى أداة تفجير سعوديّة في وجه القطريين، ظنّاً من آل خليفة بأنّهم سيربحون من وراء ذلك تشتيت الانتباه عن الثّورة التي تُحاصرهم، وعلى طريقة القبائل في توزيع ثأر الدّماء على أكثر من فخْذ وقبيلة.
النّتائج تظلّ غير مضمونة، إلا أنّ “الوقاحة الخليفيّة” في تنويع لعبة التّجنيس تظلّ هي الموضوع الأخطر الذي يحتاج إلى تداركٍ، وبأسرع وقتٍ ممكن، وقبل أن يقع الفأس على الرأس.