آخر لقاء لي بالشهيد السعيد محمد باقر الصدر
البحرين اليوم – (خاص)
بقلم: ساهر عريبي
إعلامي عراقي مقيم في لندن
كان الشيب قد غزا لحيته الكريمه والضغف والوهن دبّ في جسده الشريف، وعلى العكس من المرتين السابقتين اللتين تشرفت خلالهما بلقائه. ففي المرة الثانية؛ زرته مع جمع من الشباب في منزله فوجدناه جالسا في غرفة صغيرة تقع إلى جهة اليمين من باب البيت، وجلس إلى جنبه عدد من طلبته، وكان أحدهم يفتح الرسائل الموجّهة للسيد، وكان يجيب على ما ورد فيها من أسئلة، وقد استشاره في احد المرّات – ولم أعرف من هو، لكن صورته التي مازالت منطبعة في ذاكرتي توحي بأنه السيد محمود الهاشمي الذي يتولى اليوم مسؤولية رئاسة مجمع تشخيص النظام في ايران.
جلسنا أمامه والرهبة تملأ قلوبنا لأن صيته ذاع في ذلك الوقت بغزارة علمه وخاصة في الفلسفة والإقتصاد، وإن كنا في ذلك الوقت لم نقرأ تلك الكتب ولم تكن لدينا الأرضية العلمية اللازمة لفهمها، وبخاصة كتابا “فلسفتنا” و”اقتصادنا”، ولكني أذكر أني طالعت جلد الكتاب، وكان فيه تقريض لوزير الأوقاف حينها أحمد عبدالستار الجواري، وهو يكيل فيه المدح للشهيد محمد باقر الصدر قدس الله نفسه الزكية. جلسنا امامه وكأن على رؤوسنا الطير بالرغم من بشاشة وجهه وتواضعه، لكنا كنا نشعر أننا نقف أمام صرخ شامخ من العلم.
كان من المقرّر أن ألقي كلمة باسم الوفد، لكن الكلمات تكسرت بين شفتي وكانت يدي ترتجف وأنا أرشف ”استكان“ الشاي الذي كان يحضره شخص أفغاني، لفت انتباهي عند دخولنا إلى بيت السيد، عندما عاد إلى البيت السيد جعفر الصدر نجل السيد الشهيد، وقد كان عمره لا يتجاوز الخمس أو الست سنوات في العام 1979 وقد عنفه ذلك الرجل والقلق باد على محياه، لأن جعفر تأخر في العودة الى البيت مع أن الوقت كان قبل الظهر. صمتنا أثار انتباه السيد، فما كان منه إلا أن بادر بالكلام قائلا ”لقد حاول المستعمرون أن يبعدوا الشباب عن علماء الأمة وها هم الشباب يتقربون من العلماء“، ثم خرجنا من عنده وأنا أتلقى اللوم من الآخرين لأني لم الق كلمة باسم الوفد أمام السيد.
وأما المرة الأولى التي شاهدت فيها الشهيد السعيد والفيلسوف آية الله العظمى محمد باقر الصدر؛ فكانت في كربلاء، وكنا لتوّنا أنهينا زيارة الإمام الحسين، وكان من المقرّر أن أعود إلى جامعة البصرة، وأثناء العودة وفي أحد شوارع كربلاء شاهدنا رجل دين برفقة شخص، فنظرت لصديقي المرحوم أبو مريم, وسألته أليس هذا السيد محمد باقر الصدر، إذ لم نره من قبل إلا في الصور، فقال لي أبو مريم أظن ذلك، ولكن دعنا نسأل مرافقه، الذي أكد أنهما متوجهان للزيارة، فسلمنا عليه وسألنا المرافق إن كان يسمح لنا بمرافقته بالزيارة، فأجاب بالإيجاب وسرنا خلفه، وكان الجو قائضا، فذهب أبو مريم واشترى ”مهفّة“ وبدأ يحركها على وجه السيد، فما كان منه إلا أن رفض ذلك قائلا لأبي مريم: “أرجوك لا تفعل”.
كنا اثنين فقط نمشي خلف السيد، وبعد دقائق تحولنا إلى مسيرة عظيمة من الشباب تمشي خلفه، إذ لم تتوقف الأسئلة من الزائرين عما إذا كان هذا هو الصدر، وكنا نرد بالإيجاب والجميع ينضم إلينا، ولازلت أذكر عندما قلت لأحدهم نعم إنه محمد باقر الصدر، فقال لي هل هو مؤلف هذا الكتاب، وكان يحمل كتاب “بحث حول الولاية”، فقلت له نعم. شكلنا حوله حلقة لحمايته لشدة الزحام، فسار بنا في شوارع كربلاء، فزرنا الإمام الحسين عليه السلام وأخاه العباس، ثم عاد متوجها إلى السيارة التي أقلته، وحيث التقيناه عند البدء. سار خلفه آلاف الشباب في مظهر عظيم أثار حنق وغضب رجال الأمن الصدامي المنتشرين في زوايا المدينة. ومع قرب وصول السيد إلى السيارة التي أقلته؛ توجه نحونا مرافقه قائلا: “السيد يطلب أن تتوقفوا”، فتوقفت الجموع، ولم تخط خطوة واحدة بعده، وحينها دخل الزقاق وركب سيارته. كان مظهرا لا ينسى، وأمر فسرناه بأن الشهيد السعيد أراد أن يظهر للسلطات الصدامية بان هناك آلاف الشباب ممن تأتمر بأوامره وتلبيها.
في كلا هذين اللقاءين كان الشهيد مربوعا مع لحية سوداء فيها بعض الشيب، وعلى العكس من آخر مرّة التقيته فيها أثناء الحصار الذي فرضته السلطات عليه في منزله. فقد قرّرنا زيارته برغم المخاطر، وتوجهنا نحو بيته أنا وأخي الشهيد السعيد الشيخ مهدي مبروك الذي كان يرتبط بعلاقة وثيقة بالشهيد الصدر بالرغم من صغر سنه. أدخلونا البيت وصعدنا إلى الطابق العلوي، وكان يجلس في غرفة إلى اليسار. دخلنا عليه وكان هناك حضور وبينهم رجل دين. كان منهكا وهزيل القوى، لكن ذهنه الوقاد كان يستحوذ على الألباب، وبعد أن سلمنا عليه وجلسنا كان في ذهننا سؤال اتفقنا على طرحه عليه. وهو: ما هي النظرية الإسلامية في تفسير التاريخ. كان المد الإسلامي أخذ بالإنتشار في العراق عقب الثورة الإسلامية في ايران وبدأت تُطرح العديد من المواضيع للنقاش، ومنها تفسير حركة التاريخ، وقد أدلى بدلوه حينها في هذا المضمار الدكتور عماد الدين خليل من أبناء مدينة الموصل، إذ أصدر كتابا تحت عنوان “التفسير الإسلامي للتاريخ”.
وقد أجابني الشهيد الصدر قائلا ”إن النظرية الإسلامية في تفسير التاريخ تقوم على ثلاثة عوامل وهي الوحي والأرض والإنسان“، ثم أسهب في الحديث عن تلك العوامل ضاربا عدة أمثلة لا زالت منقوشة في ذهني. وأولها أن الوحي هو من يصنع التاريخ، وضرب مثلا لذلك بالإسلام الذي غير وجه الجزيرة العربية والعالم، إذ أشار السيد إلى أن الإنسان في الجزيرة كان يفتقر لمقومات صناعة التاريخ، فهو متخلف يأد النساء ويعاني من الفقر ويشن الغزوات، كما وأن الأرض بحسب السيد الشهيد كانت صحراء قاحلة تفتقر لمقومات بناء حضارة وصناعة تاريخ، لكن الوحي الذي نزل على محمد صلى الله عليه وآله سلم هو الذي صنع ذلك التحول التاريخي، وحوّل ذلك الإنسان الجاهلي إلى صانع حضارة.
ثم ضرب مثلا بإرم ذات العماد كمثال على منعة الطبيعة التي تصنع التاريخ، لافتا إلى أن الوحي لم يكن له دور ولا الإنسان الذي كان بسيطا وغير متطور، لكن الطبيعة المحصنة هي التي مكنت إرم ذات العماد من أن تصنع التاريخ. ثم اختتم السيد الشهيد حديثه ذاكرا اليابان، مشيرا إلى أن لا الوحي ولا طبيعتها صنعت التاريخ، بل هو الإنسان الياباني الذي استخدم طاقاته الفكرية، فصنع تلك الحضارة والتاريخ. عدنا من زيارته ونحن قلقون عليه، ولكن لم تلبث سوى بضعة شهور حتى جاء خبر استشهاده مساءا، وكانت السماء مكفهرة، وقد نزل علينا الخبر كالصاعقة، وكنت حينها طالبا في كلية الهندسة الكهربائية بجامعة البصرة، قرّرنا عدم الدوام في اليوم التالي أنا وصديقي وأخي الشهيد زكي حميد عبود من اهالي منطقة الجمهورية بالبصرة، والشهيد السعيد خضير عباس بطيخ من أهالي البصرة الكرام.
وفي اليوم الذي تلاه وعندما عدنا إلى الدوام سمعنا بأن أحد الأبطال من طلاب كلية الزراعة وقف وسط النادي الجامعي في مجمع التنومه، هاتفا: “لقد أقدمت الزمرة المجرمة على إعدام آية الله العظمى محمد باقر الصدر”، فما كان من جلاوزة الأمن الجامعي، ومنهم المدعو حقّي اسماعيل حقّي من أهالي الناصرية، إلا وانهالوا عليه بالضرب من كل حدب وصوب، ثم اقتادوه إلى مديرية أمن البصرة، ولم نعلم له أثرا من بعد ذلك.
فسلام عليك أيها الشهيد السعيد يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعث حيّا، وهنيئا لمن سار على طريقك وتمسك بنهجك، فقد آثرت الشهادة على أن تتنازل عن مبادئك وتسقط أمام إغراءات الدنيا التي فتح أبوابها أمامك نظام البعث مقابل كلمة منك تمدح فيها ذلك النظام، لكنك رفضت ولوجها. والخزي والعار على كل من تاجر بدمك وبدماء الشهداء ممن يخضم اليوم مال العراق خضم الأبل نبتة الربيع، والسلام على جميع الشهداء الأبرار الذين عرفتهم وعرجت أرواحهم الطاهرة إلى علّيين.. فلقد كانوا عشّاقا للصدر وأوفياء لنهجه القويم.