١٥ – ١٦ مارس ٢٠١١م: من ذاكرة دوّار اللؤلؤة
١٥ مارس ٢٠١١م.
تغيبُ الشّمس خلفَ الأصوات التي كانت تهدرُ قبل قليلٍ؛ بعد تظاهرةٍ حاشدة عادت للتّو من السفارة السّعوديّة في الحيّ الدبلوماسي بالمنامة.
يحلّ الظلامُ.
تبدأ أعدادٌ كبيرة من المعتصمين بالخروج من دوّار اللؤلؤة لتفقّد مناطقهم وبلداتهم مع دخول قوّات درع الجزيرة البلاد،وبعد شيوع صور الدّماءِ.. ورأس أحمد فرحان.
الرّياحُ كانت شديدةً تلك اللّيلة، وكأنها تريد أن تُرسِل إنذارا مبكّرا للمعتصمين. خيمُ المعتصمين كانت تتطاير من شدّة البرودة.
احتشد جمْعٌ من المعتصمين عند منصّة الدّوار، وبدأت الأدعيةُ ترتفع إلى السماء.
يقطع سيْلَ الأدعية صوتُ عبد الجليل السّنكيس الذي صعد المنصّة، وجدّدَ العهدَ والصّمود.
تختفي كلّ الأصوات، عدا المناجاة التي توزّعت على كلّ الخيم، وفي مختلف الزّوايا.
كان دعاء “يا منتقم“ يرفرف من وسط الدّوار باتّجاه اللؤلوة التي سيكون ذلك المساء آخر عهد لها بهذه الأصوات، قبل أن تُهْدَم، ويتمّ “إخفاء” الذكرى “الأليمة” على وزير الخارجيّة.
يخفت الصّوت أكثر.. عدا هدير الرّياح التي بدأت تشتعلُ في كلّ الجهات.
وحيداً في خيمة الإعلاميين. أشْحنُ جهاز اللابتوب والموبايل بأقصى ما يمكن من الطاقة. مقالُ جريدة الأخبار اللبنانية يتعسّر أن يخرجَ من رأسي، وعلى غير العادة. لا بد أن أتحرّك قليلاً. أصعدُ السّيارة، أجول حول الدّوار مخترقاً أسوأ ظلام دامس يمكن أن تلمسه العيون. شبّان يتوزّعون حول الدّوار، يحرسون المعتصمين من المليشيّات والجنود الأجانب.
أعود إلى الدّوار. هاديءٌ على غير العادةِ، إلا من الرّياح التي تشتدّ أكثر، وهمسات المتهجدين. أعودُ إلى الخيمة. لا أحد. الخيمةُ تكاد أن تطيرَ في الهواء، لولا الإنارة التي كانت تُعطيني الأمانَ، أو بعضه. أشحنُ من جديد، وأفتح اللابتوب. ينتهي المقالُ بسرعةٍ مع قُرب الفجر. أرْسله إلى الموبايل، ومنه إلى ايميل “الأخبار“.
أعود إلى السّيارة. أرقد فيها قليلا. الرّياح شديدة. أتابع الأخبار عبر تويتر. استقالاتٌ متتالية للوزراء والقضاة، وتقدّمٌ دمويّ للقوات.
أوّلُ لونٍ للصّباح كان هدير الطائرة. شبّان يلحّون على النساء للانسحاب. النّارُ ترتفع من الخيم، والأصوات المنادية “يا منتقم“ لا تزال تقاوم من منصّبة الدّوار حتّى آخر قَدم للجنود الذين دخلوا محيط الدّوار.
أرى صديقاً يُعاني من عجْز في قدمه يحاول أن يُقاوم الخوف، ويسحب بعض الصناديق لإعاقة تقدّم الجنود.
على بُعد ٣ أمتار، أو أكثر بقليل، يتقدّم الجنود. أُحرّك عيني من جديدٍ ناحية الصديق، فأرى وجهه مكتظا بالدّماء. لكنه لا يتحرّك من مكانه.
أنظرُ بين مسافتين، من خلفي مباشرةً سيارتي المركونة عند أقرب نقطة للدّوار، وأمامي جنودٌ يقتربون ويطلقون الموت.
هديرُ الطائرة يعجز عن إخفاء صوت النساء اللواتي يدعون الشباب للانسحاب، وإلا سيبقين معهم في الدّوار، أو أطرافه.
يبدأ الانسحاب، وأنا لا أدري ما أفعل. أأتحرّك بقدمي، أم أذهب للسيارة؟! ٣ أمتار من المسافات كانت كافيةً لاتخاذ قرار قدريّ. إلى السّيارة. هل كان اختياري الانسحاب بالسيارة هزيمةً، أو شعورا باليأس؟ لقد انسحب أكثرهم، وتركوا سياراتهم مكانها، وكأنهم يقولون بأننا عائدون من جديد يا “ميدان الشّهادة”. اختياري السّيارة سيُشكّل، طيلة ذلك اليوم، وجعاً لا ينفكّ يكسرُ المشاعر المكثفة داخلي.
طريق الانسحاب كانت دماءا. أرجعُ إلى الأرشيف لأرى تغريداتي في تلك اللحظات. كنتُ أبحثُ عن مكان. علي الديري يدعوني لمنزله. لكن مقالاً آخر يتزاحمُ في رأسي، ولا يكفّ عن الهدوء. أتوقّف في وسط الطريق، أفتحُ اللابتوب. البطارية تتضاءل بسرعةٍ وكأنها تُعاندني، أو أنها تقترح عليّ التحرّك بسرعة من الطريق التي سيسقط فيها، بعد قليل، شهيدٌ خرج من سيارته مواجهاً الجنود بدباباتهم.
يقترح عليّ أصدقاء أن أسلك، بسرعٍة، طريقاً لم يُغلق بعد للتّوجّه مباشرةً إلى مكان آمن. أستقرّ في بلدة كرزكان، وأبيتُ عند أطيب النّاس.
صورة الدّوار في آخر ليلةٍ له لا تزال محفورةً في الذاكرة.
مشهدُ الخيم وهي تتطاير في الليل من شدّة الرّياح، ثم تتطاير نهارا من هواء الطائرات والنيران المشتعلة.. هو المشهد الذي سيظل يسكن في داخل كلّ الذين شهدوا ليلة ويوم الإخلاء الأخير للدّوار.